الانتظار: فنٌّ نسيناه، وحِكمةٌ نهرب منها

الانتظار: فنٌّ نسيناه، وحِكمةٌ نهرب منها | فنون المعارف

الانتظار: فنٌّ نسيناه، وحِكمةٌ نهرب منها من مدونة فنون المعارف

في زمن نقدر نطلب فيه طعام العشاء ويوصل خلال 20 دقيقة، ونبحث عن معلومة ونجيبها في ثانيتين، ونرسل رسالة ونستلم الرد قبل ما يرن الهاتف… صار "الانتظار" كلمة غريبة، كأنها من زمن آخر.

صرنا نحس بالضيق لو التحميل تأخر خمس ثواني. نتوتر لو الرد تأخر ساعة. ونتخيل أن كل تأخير هو "ضياع وقت"، أو "فشل"، أو "إهمال".

لكن… هل فكّرنا يوم أن الانتظار مو فراغ؟ بل هو زمنٌ يُبنى فيه الإنسان من الداخل؟

"ما كل شيء يستحق السرعة… بعض الأشياء تستحق أن تُنتظر بسكينة."

لماذا نخاف من الانتظار؟

لأننا تعلّمنا أن الإنتاجية = القيمة. فكل لحظة ما نكون فيها "نُنجز"، نحس أنها ضائعة. والواقع؟ أكثر اللحظات التي غيّرت حياة الإنسان… كانت لحظات انتظار.

انتظار فرصة. انتظار شفاء. انتظار فكرة تكتمل. انتظار قلب يهدأ. انتظار شخص يفهمك من غير كلام.

لكننا نهرب من هذا الانتظار، فنملأه بالتنقل بين التطبيقات، أو نستعجل قراراتنا، أو نُجبر أنفسنا على "الحركة" حتى لو كانت عشوائية… فقط علشان نحس أننا "نعمل شيء".

الانتظار مش توقف… هو تهيّؤ

في الطبيعة، ماشي شيء يستعجل. الشجرة ما تقول: "يا رب، خلّي التمرة تنضج بسرعة!" المطر ما ينزل قبل أن يكتمل البخار في السماء. والطفل ما يولد قبل أن يكتمل جسده في رحم أمه.

كل شيء في الكون يمرّ بمرحلة انتظار… لأن النضج يحتاج وقتًا، والحكمة تحتاج صمتًا، والثقة تحتاج تجارب.

في مدونة فنون المعارف، نؤمن أن بعض أعمق الدروس في الحياة لا تُعلّم في لحظة الإنجاز، بل في لحظة الانتظار. لأنها اللحظة اللي تختبر صبرك، وتفتح قلبك، وتُريك من أنت حقًّا حين تخلو من الضجيج.

أنواع الانتظار… ودروس كل نوع

الانتظار القسري: مثل انتظار نتيجة فحص طبي، أو ردّ من شخص تحبّه. هذا النوع يُعلّمنا التسليم… أن هناك أشياء خارج سيطرتنا، وواجبنا هو أن نهدأ، ونثق، ونحافظ على سلامنا الداخلي.

الانتظار الاختياري: مثل تأجيل قرار كبير، أو الانتظار حتى تكتمل رؤيتك. هذا النوع يُعلّمنا الحكمة… أن التسرّع قد يُهديك نتيجة سريعة، لكنها غالبًا تكون سطحية أو مؤقتة.

الانتظار الروحي: مثل انتظار لحظة وضوح، أو شعور بالسلام، أو إجابة من الداخل. هذا النوع يُعلّمنا الاستماع… أن الجواب ما يجي من الخارج دايمًا، بل من صمتٍ تزرعه في نفسك.

كيف نتعلّم فن الانتظار؟

أولًا: توقّف عن ربط "الوقت" بـ"الإنتاج". خذ لحظة… واسمح لنفسك أن تكون فيها بلا هدف. لا تخطط، لا تقيّم، لا تُحاسب. فقط كن.

ثانيًا: حوّل الانتظار إلى فرصة لملاحظة نفسك. شو يصير في داخلك وأنت تنتظر؟ هل تضيق؟ هل تتوتر؟ هل تهرب للأجهزة؟ هذه الملاحظة بحد ذاتها… بداية الشفاء.

ثالثًا: ازرع شيئًا. حتى لو كان نبتة صغيرة في كوب. لأنك لما تشوفها تنمو ببطء، تتعلم أن الجمال يحتاج وقتًا، وأن كل يوم مروره مو ضياع… بل بناء.

الانتظار في علاقاتنا

كثير من العلاقات تُهدم لأننا ما نقدر ننتظر. نطلب من الطرف الثاني أن "يفهم" من أول مرة. أو نستعجل الالتزام قبل أن يكتمل الثقة. أو نهرب لما نحس أن العلاقة "ما تمشي بسرعة".

لكن الحب الحقيقي، والصداقة العميقة، والتفاهم الحقيقي… كلها تُبنى في لحظات الانتظار. لما تنتظر شخصًا يمرّ بيوم صعب، من غير ما تطلب منه أن "يرجع لطبيعته". لما تنتظر فكرة تُبلور في ذهن صاحبك، من غير ما تقاطعه. لما تنتظر نفسك تهدأ قبل ما تردّ على كلام جارح.

هذا الانتظار… هو أعلى أشكال الاحترام.

"اللي يقدر ينتظر، يقدر يبني. واللي يهرب من الانتظار، يهرب من نفسه."

الانتظار والثقة بالغيب

في أعماقنا، الانتظار يلامس إيماننا. هل نثق أن هناك حكمة في التأخير؟ هل نؤمن أن ما يُكتب لنا ما يفوتنا، حتى لو تأخر؟ هل نقدر نقول: "ربما هذا التأخير هو حماية"؟

الانتظار يُجرّب إيماننا… ليس بالضرورة الإيمان الديني فقط، بل الإيمان بأن الحياة تُدار بحكمة أكبر من فهمنا.

وحين نمرّ بهذه التجربة، إما أن نخرج منها أكثر قلقًا… أو أكثر سكينة.

فنون المعارف: حيث نُعيد اكتشاف القيم المنسية

في عالم يركض نحو "الأسرع، الأكبر، الأعلى"، نحن في فنون المعارف ندعو إلى وقفة. وقفة هادئة، صادقة، مع الذات. نعيد فيها النظر في مفاهيم بسيطة… لكنها عظيمة: الصبر، الانتظار، الصمت، الاستماع، التأمّل.

لأننا نؤمن أن الحكمة ما تُبنى في الضجيج، بل في تلك اللحظات اللي نحس فيها أن الوقت "واقف"، وهي بالضبط اللحظات اللي يتحرك فيها قلبنا.

الانتظار مو عدو الإنجاز… بل رفيقه الأعمق. لأنه يُعلّمنا أن النجاح الحقيقي ما يُقاس بالسرعة، بل بالعمق، والاستقرار، والرضا.

خاتمة: انتظر… بوعي

المرة الجاية اللي تحس أنك "تنتظر"، جرّب تغيّر نظرتك. ما تقل: "وش أسوأ من الانتظار؟" قل: "وش أجمل من أن أمنح نفسي وقتًا لأتنفّس؟"

استغل الانتظار: - اقرأ فقرة من كتاب. - شوف السحاب كيف يمشي. - اكتب شعورك على ورقة. - صلّي دعاء من قلبك. - أو بس… اتنفّس.

لأن الانتظار، حين نعيشه بوعي، يصير عبادة، يصير تأمل، يصير فنّ.

— من قلب مدونة فنون المعارف، حيث تُزرع الحكمة، وتنمو ببطء… كالأشجار.

تعليقات